كلّ يوم، يُضيّع كثيرٌ منّا كتابًا في الطّريق، لم يحملوه وكانوا يستطيعون ذلك، حملوا بدلًا منه تلخيصَ أحدِ الطّلبة، أو أسرفوا في طعامِهم، ربما اشتروا طاقةً من الورد وأهدَوها لأصدقائهم، كلّ ذلك يحصل، وهذا مؤسفٌ بالنّسبة لي، حينما لا يكون الكتابُ أوّل ما نفكرُ فيه حينما تلحّ علينا قلوبنا لاختيارِ هديّة مناسبةٍ لصديقٍ عزيزٍ حميم.
يومَ نجحتُ في الثّانويّة العامّة، أتتني أمّي بهديّة مغلّفة، فتحتُها فإذا بها ديوان الشّوقيّات للشّاعرِ الكبير أحمد شوقيّ، وعلى بادرةِ صفحاتِها إهداؤها لي، كان شعورًا جميلًا ما زلتُ أستحضرُه، إذ كان أوّل هديّة فريدةٍ من نوعها في حياتي.
كثيرون منّا لا يقرأون، وهذا ليس بسببٍ لأمتنعَ عن إهدائه الكتاب، قد يعِنّ له ذاتَ يومٍ أن يفتحَه، وقد يبدأ طريقَ القراءةِ بسببك، أنت فتحتَ له بابَ الهداية، قد يلتقطُه صغيرُه فيقرأ فيه، فتكون قد ألهمتَ طفلًا بأن يقرأ، وحسبك من خيرٍ، قد لا يفتحُه، وقد يموت دون أن ينظرَ إلى صفحاته، وبعد مئاتٍ من السّنين، قد يحصلُ عليه فتىً رثُّ الثّيابِ، يتمنّى أن يحصلَ على فرصته في التعلّم، فتكون قد رويتَ ظمأه وأسديتَه خيرَ الدّنيا، أهدِ الكتابَ وصدّره بكلمةٍ طيّبة تخاطبُ القلب، فالحياةُ أن تخاطبَ القلوبُ قبلَ العقول.


إنّ خلْقَ مكتبة في البيتِ أمرٌ يجبُ ألّا يخلو منه عقلُ شابّ طموحٍ يسعى لأن تكون القراءةُ ديدنًا له ولأولادِه، أذكرُ أنّ مكتبتنا كانت صغيرةً قبل سنوات، وفي إحدى السّنين وجّهني أبي لقراءةِ كتابٍ أعتبرُه قد غيّر كلّ حياتي؛ بل ربما رسمها وخطّها منذ ذلك الحين، المهمّ قرأته واستأنستُ مسألة القراءة، أنهيتُ الثّانويّة ولا أذكرُ أنّي اشتريتُ كتابًا، دخلتُ الجامعة، ومن ثمّ تخصّصي الّذي ألزمني إيّاه ذلك الكتابُ الّذي قرأتُه، وبدأتُ أعشقُ اقتناءَ الكتب، فأنت حين تعملُ وتكسبُ مالًا تجدُ الكتابَ تجارةً رابحة، ولو أنّها تفرغُ الجيوب، المهمّ أنّك ترضى عن هزائمك، ولربما هي من المعارك الّتي قال فيها تميم: “بعض المعارك في خسرانها شرفٌ
اليوم، بحمد الله، أصبحتْ مكتبة كبيرةً نوعا ما، كثيرٌ استفادوا منها، وبالطّبع متنوّعةٌ الاهتمامات، بين تخصّصي العربيّ، المعاجم، كتب النّحو، البلاغة، الصّرف، تفسيرُ القرآن، الأدب، دواوين الشّعراء، الفكر، التّاريخ الإسلاميّ والفلسطينيّ، وغيرِها.

المكتبةُ ما دامتْ أمامَ العين، حتمًا ستحدّثك نفسُك بأن تلجَ بابَها لتقرأ، وهذه الخطوة الأولى في معالجة مشكلتنا مع القراءة، يجب أن يكون هناك مكتبة خاصّة بك، فكلّ يومٍ تكسِب فيه كتابًا فهو ذخرٌ لك، وكلّ يومٍ تقرأ فيه فهو زيادةٌ في رصيدك من هذه الحياة.
جميلٌ أن تُهديَ ابنَك ذاتَ يومٍ كتابًا، فتكتبَ له لا من أبٍ لابنه؛ بل من صديقٍ لصديقه، سيحبّك وسيحبّ الكتاب، وسيحاول أن يقرأ ليرضيك، وبعدها سيقرأ ليرضيَ حاجةَ المعرفةِ لديه، فاشترِ الكتابَ واستذكرْ قصّته بعد مئةِ عامٍ أين سيكون حالُه، ومَن سيستفيدُ منه، فلا خيرَ لك من أن تُخرجَ أحدَهم من ظلمةِ الجهل إلى نور المعرفة، وقبلَها أن نخرجَ أنفسَنا.