ذات يوم، قرأتُ منشورًا على موقع التّواصل الأزرق، يقول صاحبُه فيه: “لم يكن المتنبّي يكتب الشّعر؛ بل كان يخلقه” وقفتُ أقلّب عينيّ على النّصّ مثلَ يَدٍ تسيرُ بحنوٍّ وبطءٍ لتشيرَ لجملةٍ مكتوبةٍ وتقول: هذا هو المقصود، هذا هو المقصود، لم أملّ من النّصّ، ملكتُه كأنّه لي، وقلت: انتصرَ المتنبّي، انتصرَ المتنبّي، وهنا يُخيّل إلي أنّ الكتابة: هي أن تجدَ أحدًا تبنّى نصّك، تبنّى شعورَك، وقال: كأنّه نطقَ عنّي.
أمّا المتنبّي، وبعد حوارٍ مع صاحبِ النّصّ حولَه، قال لي: لا يحقّ لنا أن نمدحَ المتنبّي، مَن نحن؟! وأقولُ له: قد أبدو متهوّرًا؛ لكنّي سأتكلّم عنه، لا لأقولَ إنّه شاعرٌ عظيم، فلستُ غبيًّا لأجعل مقالي حاكمًا على شاعريّته؛ بل لأقول: لماذا نعتبرُ المتنبّي شاعرًا عظيمًا؟! لماذا نجحَ أن يكون خالقًا للشّعر عند صديقي؟!
يقول ابن الأثير في كتابه “الوشي المرقوم في حلّ المنظوم”: “وكنتُ سافرتُ إلى مصرَ سنة ستٍ وتسعين وخمسمائة، ورأيتُ النّاس مكبّين على شعر أبي الطّيّب المتنبّي دونَ غيره؛ فسألتُ جماعة من أدبائها عن سبب ذلك؟ وقلتُ: إن كان لأنّ أبا الطّيّب دخل مصر؛ فقد دخلها قبلَه من هو مقدّم عليه، وهو أبو نواس الحسنُ بن هانئ، فلم يذكروا لي في هذا شيئًا. ثمّ إنّي فاوضتُ عبد الرّحيم البيسانيّ -رحمه الله – في هذا فقال: إنّ أبا الطّيّب ينطق عن خواطر النّاس؛ ولقد صدق فيما قال”.
أبو فراس الحمدانيّ، شاعرٌ عظيمٌ هو الآخر؛ لكنّا لا نسمعُ عنه، لماذا؟! ذلكَ أنّه وُجِد في عصرِ المتنبّي، وواللهِ لو وُجِد في زمنٍ غيرِ زمن المتنبّي، لنالَ حقّه وذاعَ سيطُه، فكانا معًا عند سيف الدّولة، ومَن قرأ ديوان أبي فراس عرفَ ما أقول، رحمهما الله، فالمتنبّي لم يكن يخلقُ الشّعرَ ويكتبُ تاريخَه؛ بل كان يمنعُ آخرينَ من تبوّأ المكانة اللّائقة بهم، وإنّك لن تجدَ معنىً اختلجَ في نفسِك إلّا وكان المتنبّي قد سبقك إليه، خذ هذه الأمثلة:
تخيّل نفسك تقف أمام المرآة، وأنت شابٌ ما تخطّى عتبةَ الثّلاثينيّات، وفي رأسكَ بعضٌ من الشّيبات، كأنّها تقول لك: قد بلغتَ الهرمَ وولّى عنك ريعانُ الشّباب، لكنّك تقول: معقول؟! لا، لا ما زلتُ شابًّا. المتنبّي نفسُه قد نطق عن هذا المعنى فقال:
لو كان يمكنني سفرتُ عن الصّبا :: فالشّيــبُ من قبـــل الأوانِ تلثُّـــمُ
تخيّل أنّ أحدًا يتبرّم من سوءِ حظّه؛ بل ويقول: لا حظّ لا لي في هذه الدّنيا، ثمّ مرّةً أخرى يستبشرُ خيرًا، ثم يُنكَبُ مرّةً أخرى، ماذا يقول؟ سيقول: أنا، التّعاسة مكتوبةٌ عليّ، المتنبّي نطقَ عن هذا فقال:
أظمَتْنيَ الدّنيا، فلمّــا جئتُها :: مستسقيًا، مطرتْ عليّ مصائبا
بل انظرْ لموقفِ أحدهم، قامَ بعملٍ يُجزى عليه، وهو يحبّ أن يجزى بالمال، فقام صاحبُه بالثّناءِ عليه؛ لبخله، ولم يعطِه شيئًا، وهذا حصلَ مع المتنبّي حين مدحَ كافورًا الإخشيديّ، فقال:
جودُ الرّجال من الأيدي وجودُهم :: من اللّسانِ فلا كانوا ولا الجودُ
ومَن أرادَ أن يعبّر عن الفخرَ والأنَفة، فالمتنبّي خيرُ مَن فعل، انظر له إذ يقول:
يقولون ما أنت في كلّ بلدةٍ :: وما تبتغي؟ ما أبتغي جلَّ أن يُسمى
ويقول أيضًا في ذاتِ القصيدة الّتي رثى فيها جدّتَه:
وإنّي لمــن قـــومٍ كــأنّ نفوسَهم :: بها أنَفٌ أن تسكنَ اللّحمَ والعظما
إنّه يقول: نحن قومٌ أعِزّاء لا نعيشُ بذلّة أبدًا؛ بل إنّ نفوسَنا تتشوّقُ لمفارقةِ هذا الجسد، إنّها تريد الموت، إنّها نفسٌ عزيزة!!
اللهَ اللهَ أيّها المتنبّي! أنت خيرُ مَن كتبَ في المعاني، فما أطلقوا عليك (مالئُ الدّنيا وشاغل النّاس) إلّا لأنّك نطقتَ عنّا، كأنّك بيننا، تشهدُ مواقفَنا؛ وأنت عندي وامرؤ القيس خيرُ الشّعراء في باب المعاني، فهو خسفَ لنا عينَ الشّعر وخلقَ لنا التّراكيبَ المشهورةَ والتّشبيهاتِ المعلومةِ الّتي لا يخلو منها شعرُ عصرٍ من العصور، لا أماتكم الله من قلوبِ الأجيال.
أبو العلاء المعرّيّ، الشّاعر المشهور، شرحَ ديوان المتنبّي، وأطلق عليه (معجز أحمد) ذلك أنّ اسمَ المتنبّي أحمدُ بن الحسين، وممّن كتبَ عنه: محمود شاكر، كتابه (المتنبّي)، وطه حسين وكتابه (مع المتنبّي) وخيرُ الشّروحِ لديوانه: شرح البرقوقيّ، وشرح ديوانَه أيضًا الشّيخ ناصيف اليازجيّ، وعنوان كتابه (العَرف الطّيّب في شرح ديوان أبي الطّيّب).