يقول النّاقد الإنجليزيّ وليم هازلت : إنّ أدب الأمّة هو الصّورة الصّادقة الّتي تنعكس عليها أفكارُها.

لكلّ أمّةٍ أدبٌ خاصّ بها، يمثّل الرّغبات والطّموحات، بل ويمثّل التّاريخ والهويّة ويُسلّمه للأجيال المتعاقبة؛ لتبقى النّفوس متّصلة بذاتها، ولئلّا تنطفئ الشّعلة فينا، فلليونان أدبهم التّراجيديّ حينًا والكوميديّ احيانًا، الإنسانيّة تفخر بالإلياذة والأوذيسّة فخرَها بهوميروس الّذي ألّف هاتيْن الملحمتيْن، وللعرب ما يفخرون به من شعرٍ ونثر، فلهم من الشّعراء ما يُغبطون عليه، منهم ملك شعرِهم : امرؤ القيس، الّذي فتح باب الشّعر لمَن بعدَه، يفتخرون بالمتنبّي الّذي يقول :

كأنّ كلّ سؤالٍ في مسامعِه  ::  قميصُ يوسفَ في أجفان يعقوبِ

يملكون الجاحظ الّذي نذر حياته للتأليف فكتب البيان والتّبيين والبخلاء وكثيرًا من الرّسائل في شتّى المواضيع، ولو عرّجت على أهل الثّورة الفرنسيّة مقتحمي الباستيل وسألتهم مَن أرباب الأدب عندَكم ؟ لَقالوا : نملك لافونتين، وجان جاك روسو، ونضمّ بين أذرعنا بلزاك وهوجو ولامارتين أيضًا.

ولو ذكرتَ إيطاليا لما جاز لك إلّا أن تذكر دانتي أليجيري، ولو ذكرتَ ألمانيا لقفز إلى أذهاننا فريدريك نيتشه، قائلًا : أهلًا بكم في لغتي وشعري، وهكذا هي حال الأمم، تعتزّ برجالاتها من أهل الأدب؛ ذلك أنّهم مَن ينطقون عن خواطرِها وآمالها، ويدفعون السّوء عنها؛ بل ويحفظونها أبدَ الدّهر بأدبهم العالي، الّذي إذا قرأته لامسَ مكمنًا في قلبك، فقلت : كأنّه نطق عنّي.

لربما، أحاولُ من منطقِ التّعريف بالشّعراء، ومنطق بعثِ الأدب فينا وبعثِ النّشوةِ الأدبيّة فيكم هذه اللّيلة أن أقطفَ جميلَ الأبيات متتبّعًا التّاريخ وعصور الأدب، فتفضّلوا معنا :

يقول امرؤ القيس الكِنديّ مفتخرًا طامحًا وهو الملك ابن الملوك (جاهليّ) :

فلو أنّما أسعى لأدنى معيشةٍ  ::  كفاني ولم أطلب قليلٌ من المال

ولكنّما أسعى لمجــدٍ مؤثّـــلٍ  ::  وقد يدركُ المجد المؤثّل أمثالي

يقول عنترة بن شدّاد العبسيّ ناقمًا على قبيلته (عبس) الّذين يفتخرون به وقت الحرب ويقدّرونه، ووقت السّلم يهملونه وينعتونه بالعبد واسم أمّه (زبيبة) وكانت من أرض السّودان  (جاهليّ) :

يدعونَني في السّلم يــا ابـن زبيبةٍ  ::  وعند صدام الخيل يا ابن الأطايب

يقول متمّم بن نويرة يرثي أخاه الّذي قتله خالد بن الوليد في حروب الرّدة (إسلاميّ) :

فتىً كان أحيـــا من فتـاةٍ حييّــةٍ  ::  وأشجعَ من ليــثٍ إذا مـا تمنّعــــا

سقى الله أرضًا حلّها قبرُ مالكٍ   ::  ذِهاب الغوادي المدجنات فأمرعا

يقول جرير بن عطيّة التّميميّ في قصيدته الغزليّة (أمويّ) :

إنّ العيــون الّتي في طرفهــا حَورٌ  ::  قتلننــا ثمّ لم يُحييـــنَ قتلانـــا

يصرعنَ ذا اللّبّ حتّى لا حراك به  ::  وهنّ أضعفُ خلق الله أركانا

يقول قيس بن ذريح حبيب لبنى :

بليغٌ إذا يشكو إلى غيرها الهوى  ::  فإن هو لاقاها فغيرُ بليــغ

يقول أبو نواس في الخمر المعتّقة (عبّاسيّ) :

دع ذا عدمتُك واشربْها معتّقةً  ::  صفراء تُعنِقُ بين الماء والزّبد

يقول الباروديّ رائد مدرسة الإحياء (شاعر حديث) :

أدعو إلى الدّار بالسّقيا وبي ظمأ  ::  أحـــقّ بالرّيّ لكنّي أخــو كــرمِ

يقول أمير شعرنا أحمد شوقي :

ريمٌ على القاع بين البان والعلمِ  ::  أحلّ سفْك دمي في الاشهرِ الحرم

رمى القضاء بعينيْ جؤذُرٍ أسدًا  ::  يا ساكن القاع أدرِك ساكن الأجمِ

هذه جولتُنا المسائيّة قد أتممناها بخير، إن استمتعتم بها فأخبرونا؛ لنخرجَ معًا في جولةٍ أخرى في قادم الأيّـام، مع شعراء أُخَر.