“والصداقة ماءٌ روحيٌّ لا يشربُه إلّا مَن ذاق تجربتَها الحقّة”

لا شكّ أنّ معيار اعتماد الصّداقةِ يختلفُ من شخصٍ لآخر، فأنت تجدُ مَن يقول: إنّ حياتي مليئةٌ بالأصدقاء، لا أستطيعُ عدّهم حتّى! وبين آخرَ يقول: لم أعثُرْ بعدُ في هذهِ الحياة على ما تُسمّى الصّداقة!  وتجدُني أمامك أقول: الصّديق يا بنيّ، إن وجدتَه في حياتِك وتوثّقت صداقتِكما، -وهذه ضرورةٌ- كنتَ كمَن ملكَ الدّنيا، واطمأن على حياة قلبِه وأمِن فاجعةَ الدّهر في المواجهةِ وحيدًا بلا سند.

وإنّي في هذا المقالِ جامعٌ دررًا فيما نُطِقَ عن الصّداقة فوقعَ منّي موقعًا معظِّمًا وبلغَ منّي مبلَغًا عزيزًا، حتّى لكأنّه نطقَ عنّي، وأغلبُ ما يُنقَلُ هنا من كتابِ الصّداقة والصّديق لأبي حيّان التّوحيديّ، وكتابِ طوق الحمامة لابن حزمٍ الأندلسيّ، ولي عليها تعليقاتٌ أوضّح أو أقرّب، والله المستعان:

“الصّداقة الّتي تدور بين الرّغبة والرّهبة شديدةُ الاستحالة، وصاحبُها من صاحبِه في غرور، والزّلة فيها غير مأمونة، وكسرُها غيرُ مجبور”

فقلتُ: هذا أصلٌ عظيمٌ في الصّداقة، فكيف يتصادقُ اثنان وما أذابا جليدَ القلوب؛ بل وأشعلا نار التّحقيق وترقّب الهفوات والزّلّات، فلم تتصافح قلوبُهما ولمّا تطّلعْ على خباياها، فمثلُ هذا يأثمُ صاحبُه في دين الصّداقة إن أطلقَ على نفسِه اسمَ صديق؛ فما بلغَ معشارَه.

ولندرةِ الصّديق قال أحدُهم: “الصّداقة مرفوضة، والحفاظُ معدوم، والوفاء اسمٌ لا حقيقةَ له، والرّعاية موقوفةٌ على البذل”

فهو يرفضُ المصطلحَ لانعدامِ حدوثِه وأصلِه (الوفاء)، واستبدلَ الصّداقة بالرّعاية، ومع هذا فهي موقوفةٌ على البذْل، وهذا ما نسمّيه اليومَ (صديقَ المصلحة)

وهذهِ مبالغةٌ؛ لكنّها تخبرُك بمعنى الصّديق، وأيّ نعمةٍ أنت فيها إن ملكتَه، فقد تنقضي حياةُ كثيرٍ من النّاس وما عثروا على صديق يجلسُ عند القبر يبكيهم، وقد قال أمير المؤمنين عليٌ كرّم الله وجهَه: “قليلٌ للصّديق الوقوفُ على قبرِه” وهذا حقُ الصّديق على صديقه، فإن لم يفعل، فأيّ شوقٍ في القلبِ وأيّ صدقٍ على الجوارحِ فيه!!

 

وكتبَ صديقٌ إلى صديق فقال: “أمّا بعدُ: فإن كان إخوان الثّقة كثيرًا فأنت أوّلهم، وإن كانوا قليلًا فأنت أوثقُهم، وإن كانوا واحدًا فأنت هو!!”

قلتُ: وهذا أصلٌ عظيمٌ متينٌ من أصول الصّداقة ألا وهو (الثّقة) فإنّها متى وُجِدتْ وَجدْتَ الصّداقة، ومتى انعدمتْ انعدمتْ إمكانيّة الصّداقة.

وأمّا مَن يدّعون الصّداقة ادّعاء، فبئس القومُ هم، فإنّ الشّيء إذا وقرَ في النّفس كان من ديدن صاحبه وجِبِلّته فلا يُطلَبُ ذِكرُه؛ لأنّه وقرَ في النّفس؛ بيدَ أنّ هؤلاء يفضحون أنفسَهم إذ يبيّنون كذبَهم ويُشهِدون القومَ على دعواهم، إنّما إذاعة الحبّ للمحبّين أنفسِهم، خاصّة المرأة؛ ذلك أنّها تُحبّ أن يُتغزّلَ بها؛ لأنّ ذلك من فطرتِها، وليس هذا في عُرْف الأصدقاء في شيء، وإنّي أقرأ لابن حزمٍ إذ به في (باب الإذاعة) يقول: “وقد تعرِضُ في الحبّ الإذاعةُ، وهو من مُنكَر ما يحدُث من أعراضه، ولها أسباب، منها: أن يريدَ صاحبُ هذا الفعل أن يتزيّا بزيّ المحبّين، ويدخل في عِدادهم، وهذه خلافةٌ لا تُرضى، وتخليج بغيض، ودعوى في الحبّ زائفة”

ما أصدقَك يا ابن حزم!! “ودعوى في الحبّ زائفة” !!

أمّا أنتَ أيّها القارئ الكريم، فإن عثرتَ على صديقِك فأخبر بيرحكايا، فإنّك قد حُزتَ أمرًا عظيمًا تستحق التّهنئة عليه.

ملاحظة: الاقتباسات في المقال مأخوذةٌ من كتابيّ (الصّداقة والصّديق) لأبي حيّان التّوحيديّ، و(طوق الحمامة) لابن حزمٍ الأندلسيّ.