بقلم : إيهاب خصيب 

الساعة الثالثة عصرًا من يوم الجمعة في إحدى السنوات المنسية، مطرٌ غزيرٌ يدق على النوافذ، صوت الريح يهز أبواب الغرفة بعنف، وأحيانًا يسرق الرعد صوت المطر، مصباح أصفر متقطع في غرفة حل الظلام فيها، خمسة أطفال يلعبون في تلك الغرفة، منهم من يشتم ومنهم من يبكي ، وطفلٌ يضحك في زاوية الغرفة.

صدر فجأةً صوتٌ أعلى من صوت المطر، أعلى من صوت الرعد وصوت ضحكة محمد، صوت صراخ يتردد في أذني حتى اللحظة، تلك الطفلة ابنة الثلاث سنوات مستلقية على الأرض، تصيح والرعب يهطل على وجوهنا، والدتها تخلع الملابس عنها بسرعة البرق! بجانبها وعاء ملقى على الأرض يخرج منه بخار، ماء منسكب في كل مكان، ورائحة لحم مشوي لم أشمه منذ زمن، تتلوه رائحة شعر محروق!

وجه تلك الصغيرة أصبح بلون الجمر في الكانون الواقع في نهاية الممر، الأم تحتضن ابنتها المغمى عليها بعد أن غطت جسمها بقطعة قماش وتمتمت: ماذا سأفعل؟ كيف أتصرف؟ وصرخت بصوت خرج بشق الأنفس: أين أباكم؟ جلست عاجزة لا حول لها ولا قوة، ونحن أطفال لا حول لنا ولا قوة. وما زال أبي يعتقد إلى اليوم أن وسائل الاتصال ليس لها أهمية كبيرة في حياتنا! .

 

 

انتماءاتي المهجورة

بدأت التساؤلات تتزاحم وأفكاري تكاد أن تنفجر، ذهبت إلى سريري لأجد إجابة لهذه التساؤلات: إلى ماذا أنتمي؟ ، ولكن حال اليأس من هذا الواقع البائس كاد أن يقتلني، فسرحت في عالمي وخيالي، وبدأت أحلامي تتناثر.

رأيت في أحلامي أني أنتمي لأرض جدي التي سيطر عليها الاحتلال الإسرائيلي، وتوفي جدي وهو يحلم بقطف ثمار البرتقال والعنب والموز منها، أني أنتمي للبحرين الأبيض والأحمر وشواطئهما التي أتمنى أن تلامس مياهها ورمالها جسدي الجاف، أنتمي لكل أسير قابع خلف القضبان ودموع والدته تنهمر قهرًا واشتياقًا له، أنتمي لدرويش وجبران وكنفاني وجبرا وطوقان ولكل حرف كتبوه، أنتمي للأقصى والإبراهيمي والمهد والقيامة، والى كل مصلي فيهم، انتمي إلى السوسن وشقائق النعمان والنرجس والأقحوان والياسمين في كل جبال الوطن، انتمي إلى الموارد المعدنية من حديد ونحاس ويورانيوم في النقب، انتمي للعمال والمتعلمين للحرفيّين والموهوبين والمرضى ولصوت فيروز الذي يدمي قلبي، أنتمي لرائحة قهوة أمي في كأس زجاجيٍّ على شرفة تطل على سنابل القمح الذهبية، أنتمي إلى أحجار مدرستي القديمة المهجورة التي علمتني حروفي هذه، أنتمي إلى خبز الطابون الذي كانت تعده جدتي مع طلوع الفجر، انتمي لرسالة ورقية من فتاه أخبرتني عن حبها الشديد لي ولكنها تزوجت، أنتمي لصوت المؤذن الذي أنتظره عند الفجر لأحدث الله لوقت طويل، انتمي لصيادي السمك والمزارعين، للرسامين والموسيقيين، للمجاهدين والمناضلين، لأبي وأمي، أنتمي لثورات هذا الوطن وشهدائه وأسراه وحجارته والرصاص والطائرات الحربية ورائحة الموت المنبعثة في كل مكان، أنتمي لألوان العلم الفلسطيني الذي لم نختره!

استفقت من حلمي لأجد الإجابة، وهي أني أنتمي إلى كل جزء من هذا الوطن، نعم أنا أنتمي إلى فلسطين بكل تفاصيلها من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب.

رسالة إلى شهيد

أنا الآن في غرفتك يا صديقي، أجلس على سريرك الخشبي، رائحتك ما زالت تزين سريرك، ورواية رجال في الشمس ما زالت مكانها، لا يوجد غبار أبدًا في هذه الغرفة ولم تتغير معالمها وكأنك ما زلت حيًا، كل ما أضفتُه لها هي صورة لك وأنت على أكتاف أصدقائك علّقتها أعلى السرير.

لفت انتباهي دفتر مذكراتك الذي ما زال مفتوحًا وكأنه ينتظرك كل يوم لتضع الحروف على أوراقه البيضاء. والدتك أحضرت لي كأسًا من الزنجبيل بالعسل كما كنت تشربه، قدمته لي بكل حب كالمعتاد، كما كانت تقدمه لنا وأنت حيّ.

أتعلم يا صديقي؟ إن والدتك قوية جدًا، وصبورة أيضًا! لا أعتقد أن أمي قد تمتلك هذه القوة لو كانت مكانها! أخبرتني أنها منذ أن استشهدت وهي تنام فقط على سريرك لتشم رائحتك التي ما زالت عالقة عليه.

لا اعلم كيف تجرأتُ وسألتها عن سر هذه القوة التي تمتلكها، هل تعلم بماذا أجابت؟ قالت: إن فلذة كبدي كان أغلى ما أملك وسيشفع لي ولكل أخوته يوم الحساب، لقد ضحى بحياته من أجل الوطن، ألا يكفيني هذا لأن أكون سعيدة وقوية؟

أنت حيٌ فينا يا صديقي وستبقى ذكراك خالدة فينا ما حيينا، ارقد في قبرك بسلام، فمكانك أجمل من حياتنا هذه.