هذا الكيانُ الغاصبُ الّذي يفتخر بأنّه دولةٌ “لا تقهر” كانَ في بدايةِ تسعينيّاتِ القرنِ الماضي قد وقفَ مقاصصاً على قدمٍ واحدة، فتارةً يُضرَبُ بسوطِ عمليّاتٍ أثارت جنونَه، وتارةً يَضربه سوطُ كوابيسهِ الّتي لا تَنفكُّ تفكّرُ في جلّاده. لم تكن احتمالاتُ توقّعاتهم لذلك الجلّادِ تتضمنُ طالباً في العشرينيّاتِ من عمره، يقضي وقتهُ “حسبَ اعتقادهم” في الدّراسةِ منشغلاً بمشاريعهِ الخاصة، ثمّ كانتِ المفاجأة، عندما أنجبتْ بيرزيت المُهَندس.

لم يعطَ لقبَ المهندسِ لكونهِ حاصلاً على شهادةِ الهندسةِ الكهربائيّةِ من جامعةِ بيرزيت فحسب؛ فهو مهندسُ عمليّاتِ ثأرٍ عديدة، امتدّت من العفّولةِ إلى الخضيرة فتفجيرُ باصٍ في القدسِ المحتلّةِ، وغيرها الكثيرُ من العمليّاتِ والخططِ الّتي وضعها ذلك العقلُ المدبّر. لكن ماذا عن عيّاش الإنسان؟ وماذا عن طلبةِ جامعةِ بيرزيت .. كيف يسقطون تجربةَ طالبٍ في مثلِ عمرهم على تجربتهم الخاصّة؟

مشهد من جنازة المهندس.. رحمه الله

عيّاش.. زاوية إنسانية
– متفوّق منذ صغره
بدت ملامح الذّكاءِ عليهِ مذْ كانَ طفلاً، إذ احتلّ المراتبَ الأولى في صفوفهِ الدّراسية، ويذكرُ أحدُ معلّميه أنّه لم يكن يكتفي بقراءةِ دروسِ الصفّ الأولِ فقط؛ بل كانً يحفظ دروس الصفّ الثاني أيضاً.  أنهى مرحلة الثّانويةِ العامّةِ بمعدّل 92.8%، والتحقَ ببيرزيت لدراسةِ الهندسة الكهربائيّة فيها ليتخرَّج منها بتفوّق بعد أن عَمَّر فيها 8 سنواتٍ بسببِ الاضراباتِ وإغلاق الطّرق.

-حافظٌ لكتاب الله
نشأَ العيّاش في بيتٍ تظلّله أجواءٌ إيمانيّةٌ تُدخلُ السّكينةَ على النّفس، حتّى حفظَ القرآنَ الكريمَ كاملاً لتمنحهُ مديريّةُ الأوقافِ الإسلاميّةُ بالقدس شهادةً لتفوّقهِ في دراسةِ علومِ القرآنِ وتجويده، ومع أنَّ العيّاش رحل، إلا أنَّ تلكَ الشّهادةَ وشهاداتٍ أخرى ما زالت تحتلُّ مساحاتِ جدرانِ بيتِ العائلةِ في رافات.


-خبايا عيّاش.. بلسان زوجته
ابنةُ خالته، وزوجتهُ هيام، ذكرت في مقابلةٍ مع قناةٍ تلفزيونيّةٍ، أنّ عيّاش شخصٌ زاهد، لا تهمّه مادياتُ الحياة، ولا يأبهُ بزوالها، كما أنّه شخصٌ هادئ جداً، يحبُّ أكلةَ “العكّوب”، ويعشقُ الشّاي “كان يحب الشّاي، ثم الشّاي، ثم الشّاي”، أمّا عن أنشودتهِ المفضّلةِ فهي “النّور ملء عيوني” للمنشدِ أبو دُجانة. كانَ لأبي البراءِ هواياتهُ الّتي لا تختلفُ كثيراً عن هواياتنا، فقد كانَ يحبُّ الكمبيوتر والأتاري “حتى إيديه ورجليه كانوا يتحركوا مع اللعبة”.

بلا أسماء، المهندس في عيون زملائه البيرزيتيّين
عيّاش الشّهيد، كان وسيظل زميلاً لكلّ الأفواجِ التي التحقت بجامعتهِ “جامعة العيّاش” بعد استشهاده، ولأنّ لزميلنا عيّاش تجربةٌ أراها كجرّةٍ من صلصالٍ عصيٍّ على الكسر، هكذا أسقطَ طلبةُ بيرزيت تجربتهُ المهلمةَ على واقعهم الخاصّ:

الأسطورة يحيى عيّاش، وأقلّ ما يُقال عنه إنّه أسطورة، هو من أهمّ الأشخاص اللي ممكن بشكل كبير تاخد القوّة منها، يعني شخصيّة بموارد قليلة، بوقت قليل، ورغم كلّ الظّروف، قدرت تكون أسطورة، هاد النّوع من الشخصيّات لازم يكون موجود بحياتي بطريقة أو بأخرى وبعتبره مثلي الأعلى، بيعطيني حافز كبير حتى ما أوقف، وبوم عن يوم بزيد إيماني بمقولة ” لا للمستحيل”، اللي بتساعدني بشكل كبير حتى أوصّل فكرتي وأحقق أهدافي، أكيد واجهت صعوبات كبيرة ورح أضل أواجه؛ لإنو أهدافي كبيرة، ف أنا بحاجة لشخص زيّ المهندس حتّى أستمد منو القوة، والإرادة وعدم الاستسلام”.

“كان من هواياته أيضاً السلاح، فكنت أغار، وأقول له: أنت تحب السلاح أكثر مني”

“مش إشي سهل تسقط تجربة أيّ شخص على تجربتك الخاصّة. بالنسبة إلي أنا بشبهش يحيى عيّاش كشخص ولا كتجربة. إذا في أيّ وجه تشابه فهو إنّا بنحمل نفس القضيّة. يحيى أخذ محمول القضيّة والدّور اللي لازم يلعبه في ظلّ الظّروف اللي كان عايش فيها لمستوى بعيد عن خيال أيّ حدّ كان ممكن يتخيّل طالب مقاوم. المعطيات اليوم مختلفة والسّؤال اللي لازم نسأله: كيف كان المهندس رح يتصرّف لو هو عايش بوقتنا؟ ولما نجاوب عهيك سؤال، بديش نوصل للي وصله بس بكفي نعرف إنه احنا قادرين نفكر بنفس الطريقة”.

“ربّما يختلف الكثيرون مع سياسة العيّاش في المقاومة، لكنّ الفكرة الأهمّ من العمليّات هو أن تكون مهندساً بكلّ ما للكلمة من معنى. إبتكار طرق جديدة للمقاومة، ووضع المخطّطات جيّداً بما لايدع مجالاً للخطأ، كسب احترام الجميع، وعلى رأسهم العدوّ! فقد عبّر الجنيرال جدعون عيزرا، نائب رئيس الشّاباك السّابق عن إعجابه بالعياش مصرحاً لمعاريف بأنه “لقد كرهته ولكنّي قدّرت قدرته وكفاءته!” “.

زوجة يحيى عيّاش وابنه الأكبر براء

“عيّاش بذرة وبذرة مباركة، خطوة جرت وراءها خطوات، نقلة نوعيّة بحدّ ذاتها، وهذا اللّافت في تحرّكه؛ لم يكن تحركاً وحسب بل كان تحرّكاً نوعيّاً، وهنا يتحقق الإنجاز، باختصار كلّ شخص يضع هدف أمامه ويعمل لهذا الهدف بإخلاص سيصل، وكلما كان اغتنام الوقت أفضل، العمر ليس بأيدينا ودقّات السّاعة ستتحرّك بنا أو دوننا، فلنترك بصمة مؤثّرة طيّبة ولنزهر متى حللنا وأينما حللنا”

تخيّل
عزيزي القارئْ، هلّا أعَرتَني مخيّلتك دقيقة؟ تخيّل معي إذاً، أنتَ تسيرُ على نفسِ الأرضِ التي سار عليها، تدرسُ في ذاتِ القاعاتِ التي درسَ فيها، ربّما ضحكَ هنا، بكى هناك، هتفَ وشاركَ وحشدَ وشجّع، أكادُ أجزمُ أنّه كانَ يتّكئُ يوماً ما على تلكَ الحافّة التي تحيطُ كليّة الهندسة، كما أنّي أبصمُ بالعشرة أنّهُ قد تفوّقَ في موادٍّ ولم يحالفهُ الحظّ في موادَّ أخرى؛ لكنَّ الأهمَّ أنّه كان طالباً كأنت، أنتَ الذي تستخفُّ بقدراتك وتستمرُّ في طمسِ ما لديك، أنتَ الذي تنكسرُ بسرعةٍ أمامَ توافهِ هذه الحياة، مخمداً براكينَ لو ثارت لكانتْ بدايةَ مشوارٍ آخر. آمنْ بنفسك، قدٍّر ما لديك، قد تتعدّدُ طرقُ الإبداعِ لكنَّ الهدفَ الذي ترمي إليهِ كلُّ تلكَ الطّرق هو هدفٌ واحد، الوطن.