ثمة حكايات لا تروى لمجرّد الرّواية فحسب؛ بل تروى كأن قدرها أن تكون أمانة كلاميّة على متلقّيها حملها في قلبه وفكره، لأنها اليدّ الّتي تمتدّ لتمسك كلّاً منّا من يده، لتقوده إلى قضيّة منسيّة عليه إعادة إحياءها في وجدانه. ولأن الحكاية قضيّة في حدّ ذاتها، لم يتردّد أجدادنا يوماً في نقلها إلينا، وأكبر شاهد على ذلك هي ستّ الحكايات، حكاية التّغريبة الفلسطينيّة. دائما ما يتمّ تناول قصص النّكبة الفلسطينيّة بشيء من الحزن، ولا أحد منّا يستطيع إنكار موجات الحزن التي تبثّها تلك القصصّ فينا، فقد يرى الفرد منّا انعكاس الحكاية على الدّموع في عينيّ جدّه أو جدّته خلال روايتهم لها، لكن ماذا عن الإصرار الذي يملؤهم عندما ينهون الحكاية؟ والجملة الّتي دائما ما يكرّرونها “سنعود يوماً”؟، ماذا عن المتلقّي الشابّ الذي لم يشهد شيئا من تلك الأحداث، ولم يتمكّن يوما من زيارة قريته الأمّ؟

أجدادنا وبركتنا.. الحكواتيّون الأصليّون للحكايات الواردة في المقال

.سأترك طلبة جامعة بيرزيت، ممّن عايش أجدادهم النّكبة، يجيبون على تلك الأسئلة، عبر نقلهم لحكايا ورثوها عن أجدادهم

حكايا.. من الأجداد على لسان الأحفاد

“اتفرّج.. ما تسرق”
فلتكن أولى هذه القصص منّي. “كانت والدة جدّتي تمتلك أراضٍ في قرية قالونيا قضاء القدس، تركتها مجبورة خلال أحداث النكبة، بعدما كان جارها اليهودي”أبراهام” يكرر على مسمعها عبارة واحدة ظلّت ترنّ في أذنها، “شايفة كل هاد يا فاطمة.. كلّو بدّو يصير إلنا”. وبعد قيامهم بالاستيلاء على أراضي الفلسطينيّين، امتلك أبراهام أرض الجدة فاطمة.  قررت الجدّة زيارة أرضها  بعد أعوام لتجد أبراهام يعمل فيها، وحين حاولت مدّ يدها لتقتطف شيئا من ثمرها، جاء أبراهام يصرخ، فقالت له “مش عارف مين أنا يا براهام ؟ أنا فاطمة كايد”. وحين تذكّر من تكون، قال لها خذي نظرة على الأرض؛ لكن لا تسرقي شيئا”.

“مش متذكر غير بيرالسّبع”
الزهايمر هو مرض يستدعي طفولة الإنسان، ويعطيها القدرة للسيطرة عليه. وفي هذا السّياق جاءت حكاية إلياس بولص عن جدّه، يقول إلياس “كان جدّي يبلغ من العمر ثلاثة عشر عاماً عندما هاجمت قوّات الاحتلال مدينة بئر السّبع، فخرجوا منها على ظهر شاحنة برفقة خمسةٍ وثلاثين عائلة، متّجهين إلى الخليل الّتي باتوا في إحدى مساجدها؛ ليتّجهوا بعدها إلى بيت ساحور. ظلّ جدّي يكرّر في آخر أيامه ذكريات بئر السّبع، وكم يتمنّى العودة إليها. غريبٌ كيف اقتصرت حياته على تلك الثّلاثة عشر عاما الّتي عاشها في بئر السبع، فكانت بدايته فيها واقعا، أما نهايته بعيدا عنها فقد كانت في خياله وإيمانه”.

أهالي بئر السّبع خلال رحيلهم عنها بعدما نُفِّذت مجزرة بحقّهم عام 1948


“بدل مصنع السكاكر بنينا مصنعين”
أما الطّالبة في كليّة التّجارة، والمنسّقة الاجتماعيّة في نادي إدارة الأعمال، يافا عبدالرّحيم، فتروي حكاية بطعم السّكاكر، تقول يافا” كان جدّي يمتلك بيتا يطلّ على البحر، ولم يكن يعاني من الصّيد، فقد كان البحر يجلب إليه كلّ خيراته ويرميها أمام بابه صباحا. وكان يملك بيّارات برتقال يحوّل شيئا منها إلى سكاكر بطعم البرتقال، ويبيعها لسكّان حيّ العجميّ في يافا. أمّا بعد النّكبة وكما توهّم الجميع بأنّهم سيغيبون أسبوعا ثم يعودون إلى بيوتهم، صدّق جدّي ذلك وترك كل شيء وراءه، ليصبح بيته مقرّا للسّفارة الفرنسيّة في ما يدعى دولة إسرائيل، أما هو فقد سكن في البيرة. لكن دون تململ أعاد جدّي جمع شتات طاقاته، ليبني مصنعيّ سكاكر بدلاً عن المصنع المتواضع الذي كان يملكه قبل الهجرة”.

“مش كلشي بالدنيا مصاري”
هكذا علّق طالب العلوم المالية والمصرفية، مصطفى عميرة، على القصّة التي رواها لي.” كان جدّي الذي ولد في عام 1920 يسكن في حي النّزهة بيافا. وكغالبية الفلسطينيّين كان جدّي يملك أراض قد ورثها عن أبيه، وهذا ما كان الاحتلال الاسرائيليّ يطمع فيه من قبل تأسيس دويلته. فذكر لي جدي يوماً أنّه كان يجلس في إحدى مقاهي يافا، فجاء بعض الرّجال إليه وطلبوا منه مشاركته في الطّاولة التي كان يجلس عليها، ثم افتتحوا الحديث بالأرض الّتي يمتلكها، ثم مهدّوا ومهدّوا، ليقوموا بتقديم عرض مغرٍ من النقود مقابل شراء قطعة الأرض تلك، فما كان من جدّي إلا أن يغضب؛ فتلك هي الأرض الّتي أوصاه بها والده مذ كان عمره إحدى عشر عاما، فطردهم وأكمل قهوته”.

المظهر العامّ لمدينة يافا عام 1948 يظهر فيها صيّادو المدينة


“حرام الفلسطيني يكون عنده أكثر من بنطلون وقميصين”
صارت هذه قناعة جدّ الطّالبة حنين عليّان؛ بعد أن خضع لعقوبة أيام الانتداب البريطانيّ قضت بهدم بيته. وقد كان بيته حينئذ من أجمل بيوت القرية وأحدثها، وهو بيت العمر الّذي أفنى ربيع شبابه في جمع نقودٍ لبناءه. هُدِم البيت فانتقل جدّ حنين بحسرته للعيش مع أهله؛ ولكنّ المصيبة اكتملت حينما هدم جنود الانتداب بيت أهله بعد فترة قصيرة؛ فأصبح الجدّ يعتقد أنّه ليس على أيّ فلسطينيّ تملّك أيّ شيء، وأنّ قميصين وبنطالا هو جلّ ما على الفلسطينيّ تملّكه. لكنه كغيره من أجدادنا يأمل من الأجيال القادمة أن تعيد تملّك ما خسروه هم من أراضٍ وعزّة.

أحد البيوت الصّامدة في قرية قالونيا المهجّرة عام 1948


أهميّة القصّة في الحفاظ على القضيّة

تثبت كلّ هذه القصصّ برأي أصحابها أموراً عديدة، من الإصرار على العودة، وإعادة التعمير، إلى تكاثف الصفّ الفلسطينيّ، والتمسّك بالأرض؛ وإن كانت همزة الوصل بيننا وبينها مجرّد حكاية. وكما أثبت أصحاب القصصّ تلك المبادئ السّامية، أثبتوا بدورهم أيضا دور القصصّ في إحياء القضيّة. تقول الطالبة هدى أحمد” قريتي” قولي”ليست بعيدة جداً، ومن الصّعب أن يكون تاريخكِ بهذه الدّرجة من القرب ومع ذلك لا تستطيعين الاقتراب منه، لذلك فتناقل الحكاية هو من أهمّ الحلول التي تعزّز وجودنا، ومن يعتقد أنّ دور القصّة غير مهمّ فقد تخلّى عن القضيّة بشكل أو بآخر”. ويضيف طالب الإدارة العامّة طارق أكرم “للقصّة دور في إظهار الظّلم الذي تعّرض إليه أجدادنا، وهي محفّز لنا بألّا ننسى وألّا نتخلّى عن الحقوق الّتي مات أجدادنا دفاعا عنها”. نهايةً،  كلّنا نعيش هذه القضيّة، ولّكل منّا سلاحه، لتكن القصّة أحد هذه الأسلحة.

هل لديك قصصّ عن النّكبة؟ وهل تؤمن بدورها في إبقاء القضيّة حيّة؟