حمل ذلك المساء من العام الماضي لقاءً يتيماً مع “فادي طبخنا”، لم نلتق من قبل، وشاء القدر أن لا نلتقي بعد..
كنا وقتها نحضر نشاطاً داخل الجامعة، جاء فادي وهمّ إلى الجميع مصافحاً، عرفهم أو لم يعرف، والابتسامة لا تفارق محياه البشوش، لم تفارقه مطلقاً ذلك الحين.. لم يتوقف عن ممازحة أصدقائه ولا كل من حوله، أدركت تلك الليلة أن الغطاء الخارجي الوقور يخفي تحته روحاً تحمل الكثير من الفكاهة، وقدراً لا بأس به من الانتماء للآخرين!
حين صافحني تبادرت إلى ذهني قصته؛ قصة شاب عشريني وسيم؛ ذو أخلاق رفيعة وبنية رياضية، أصاب جسده مرض “السرطان” على حين غرة، فقرر أن لا يستسلم؛ لأنه أدرك أن الهزائم تحل بالارادة أولاً، وأن المرء حين يتشبث بإرادة فولاذية ينتصر!

 

فادي نفسه تحدث عن تجربته مع المرض: “السرطان ممكن أخد من جسمي كتير شغلات بس مش راح ياخد عزيمتي وإرادتي ومعنوياتي، السرطان بخوفش … إحنا أقوى من السرطان، وجاهزين للمرض مرة واثنتين وألف وراح نكون قده”

مع تناقص وزن جسده، ومع غياب شعره، كان يتنامى داخله احساس عميق بالصفاء والنقاء..
في الصراع بين المصاب وبين المرض، ستكون كلمة السر في كل انتصارته؛ هي ذاتها التي أراد فادي ايصالها للعالم “شوية إرادة”، فادي الذي تحدث في الفيلم الوثائقي الذي يحمل ذات الاسم “شوية إرادة” جلس بثقة، تحدث بأريحية، معتزاً ومعتداً بنفسه، لم يحاول أن يظهر بمظهر الضعيف؛ لأنه ببساطة لم يكن كذلك، يمكن أن تقرأ ذلك جلياً في عينيه!
هل هناك أحد على وجه البسيطة، يقول له طبيب أنه سيعيش شهوراً معدودة، فيتحداه بايمان الواثق والمطمئن بالقدر، بأنه سيعود إليه وقد شُفي، ويفعل ذلك.. وينهي دراسة الثانوية العامة، بل ويحصل في أصعب
المساقات “الفيزياء” على علامة 99%، ويلتحق بالجامعة، دون أن يمتلك بداخله عزيمة لا تلين!

نتمعن سيرته، بل مدرسته في الصبر؛ وكيف قفز عن جدار الحزن العالي والصلد الذي يتمسك به الكثير من المرضى وعامة الناس مع جرعة من اليأس، ضحكاته النابعة من القلب، لم يمت الفرح بداخله أبداً، هذا المنطق مفحم للأصحاء أمثالنا، نحن نتباكى إن شاكتنا شوكة!
نسترجع الآن وقع كلماته بعد كل هذه السنوات من درب الصبر الذي سلكه، نمسح دموعنا من الخارج ونتركها تسيل إلى الداخل، علينا أن نبكي أنفسنا طويلاً..

“أنا طول ما أنا مع ربنا ربنا راح يكون معي”، رددها فادي بايمان عميق، وهي مصداق الحديث الصحيح “إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم”

فادي طبخنا

فادي طبخنا

وفي حديث آخر: “إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل فقال إني أحب فلانا فأحبه قال فيحبه جبريل ثم ينادي في السماء فيقول إن الله يحب فلانا فأحبوه فيحبه أهل السماء قال ثم يوضع له القبول في الأرض”، ومعنى (يوضع له القبول في الأرض) أي الحب في قلوب الناس، ورضاهم عنه، فتميل إليه القلوب، وترضى عنه، وقد جاء في رواية (فتوضع له المحبة).

أحببناك يا فادي لأنك لم تفقد ابتسامتك في أحلك الظروف، لأن لك روحاً نادرة في هذا المكان..
يا فارساً قد سبق الجياد جواده ** قد عشت عمرك سيد المضمار!