كطيفِ حُبٍّ مقيمٍ في الذاكرة، مقيمٍ في الحديث، مقيمٍ في الصمت، مقيمٍ في الزّحام وفي الفراغ وفي تفاصيلنا، طيفٌ وطنه أكبر من بقعةٍ وعاصمة وقرية، وطنٌ ممتدٌّ، مخضرٌّ، ومشرقٌ بالرغم من الظلام، من حيفا ورائحة البرتقال، إلى عكا ورائحة البحر، إلى غزّة وصرخة الحياة، وصولاً إلى القدس وصوت المؤذّن ينادي حي على الصلاة، وجرس كنيسةٍ يدقُّ في يوم الأحد، وحمامةٌ بيضاء تحلّق فوق المآذن تنشدُ للحريّة .

إنَّ الوطن ليس مساحة واسعة أو بُقعة أرض على خريطة، يتبعها اعتراف دولي، وتأييد من العالم الذي يمنح الحقّ للأقوياء، ويظلم الضُّعفاء، الوطن هو الشعب الذي ينشدُ حقّه، هو قبّتنا الذهبية، وبياراتنا الواسعة، وبحرُنا الهائج، هو أيدينا المجتمِعة، وصلواتنا المُقامة، وأصواتنا الهاتِفة بالحريّة.

لقد قالها خير فودة عندما غنّى “لو شربوا البحر أو هدّوا السور لو سرقوا الهوا أو خنقوا النور ما ببيعها لعكّا بالدنيا كلها..”         

ثم قالها الأخوين رحباني ” لكنّنا عدنا مع الصباح جئنا من الرياح كما يجيء المارد..ودخلناها مينا يافا..”.

وقالها الشاعر تميم البرغوثي

“في القدس، مَن في القدس ؟ لكن لا أرى في القدس إلّا أنت”.

 

لقد قالها الفلسطينيّ من قبل، منذ أوّل يومٍ للاحتلال وإلى هذا اليوم، نحن موجودون نحلم وللحلم بقيّة، نقاوم برغم الألم، ونصرخ بصوت، نرجُم بحجَر، ونُحارب بِفكرة، بكل الخيارات، فليعلنوا ما شاؤوا وليهتفوا لمن شاؤوا، ليس بوسع أحد أن يُلغيَ الحق، وإن لم يُعترف به، فهذا لا يعني أنه غير موجود، إنّ أقوى باطل أضعف مِن أضعف حقّ، وإنّ الصراعَ موجود منذُ الأزل، وهو من يُعطي لوجودنا على هذه الأرض معنىً وغايَة.

إنَّ الشعب هو صاحبُ الحق وصاحب الفكرة، ويعي أنَّ الوطن، كُلّ الوطن، بكل مدنِه، وقُراه، ومعالمِه، بكلّ ذرّة تراب فيه، كلّه حقٌ لنا، إنْ دافعنَا عنه وحفظنا عهدنا معه، إنْ تمسّكنا به، وكنّا أوفياء له، واليوم يختبرنا الواقع مجدّدًا، ونحن قادرين على أن نقولَ كلمتنا، بإرادتنا نصنع النصر.

لم تكن تلك الضربة قادرة على أن توقعنا أرضًا أو تُضعف قدرتنا على المواجهة؛ لأنَّ نزعة الحقّ أقوى من أن يغلبها الباطل مهما كان قويًّا، مهما تعدّدت أقنعته وهيئاته، ولأنَّها لم تكن الضربة الأولى، كان قبلها الكثير وبعدها هنالك المزيد، قد جعلَتنا كلُّ تلك الضربات أقوى، لم يكسرنا خذلان أحدهم، ولا انكسار آخرين، فقد اعتدنا أن نتّكئَ على أنفسنا وعلى الله.