قلبُ العاشق يعرفُ الجمال في كلّ شيءِ يراه، وإذا كان عشقه هذا للقدس فحينها سيرى الجمالَ في عيون أهلها الحالِمينَ بالسّلام، الحامِلين على أكتافِهم مفاتيح النصر، يرى الجمال في كل زاويةٍ يعلو فيها صوتُ القرآن وتراتيل الصلاة، وكل حجر نُقشت عليه أسماء من ضحّوا لهذه الأرض، قلب العاشق يرى القدس في كل بلدان العالم، ويرى العالم كلّه في القدس.

الفرق بيننا وبينهم:

عندما حَكم هذه البلاد من يعرفُ قيمتها، رصّع قُبتها بالذهب، أمّا هم ففضّلوا اللونَ الأحمر على الذهبي، فسَفكوا فيها الدماء، وعندما حكمها من يحترِم أهلها بنى فيها القيامة، والمسجد المرواني وخان الزيت، أما هم فدمرّوا البيوت وانتهكوا حُرمة المقابر، وعندما حكمها من يرجو لها العُلو، بنى الأسوار العالية الشاهدة على حضارة عظيمةٍ فيها، أما هم ففضّلوا الأنفاق وتوجّهوا إلى أسفل سافلين، والعاشق الحقيقي للقدس يعرف الفرق بينهم جيدًا ولا يضيره جهل من اعترفَ بيهوديّتها.

اعتراف ناقض نفسه:

في عام 1948، وبعد عشرِ دقائق من إعلان قيام دولة إسرائيل، أعلنت الولايات المتّحدة الأمريكية اعترافَها الكامل بدولة الكيان الصهيوني، واليوم وبعد ما يُقارب القرن، اعترف الرئيس الأمريكي بكون القدس عاصمة لهذا الكيان، لكن الاعتراف يعني شيئًا واحدًا، وهو عدم وجود ما اعترِف به من قبل، واعترافُهم بالكيان وعاصِمتِه يعني بالضرورة عدم وجودهما من قبل، بل ويجعل الناس يتساءلون: إن كانت قد اعترفت بها الآن عاصمةً فأين كانت من قبل؟ والجواب يخبُرهم إياه عاشقو المدينة وحدهم، كانت وستبقى عاصمة فلسطين.

عاصمة الشرف العربي:

لم يتبقَ غيرها، فجميعهم استسلموا ورضَخوا لقوة الاحتلال وجيشه الذي لا يُقهر، هي وحدها مَن قهرته بصلواتِ شيوخها، ودعوات نسائِها، وغناءِ شبابها وبناتها، سوف نبقى هنا كي يزول الألم، بدماء شهدائها الذين رسَموا طريق العودة وخارطة الحرية، كُتبت عنهم الحكايات والروايات، ونُظمت فيهم القصائد، وجميعها كانت بعنوانٍ واحد: عشاق القدس.

عشاق القدس:

إن الله سبحانه وتعالى إذا أحبَّ عبدًا ابتلاه، وكذلك اذا أحبَّه أرسل محبته إلى قلوبِ العالمين، والقدس كذلك، ابتلاها الله بالحُروب والمكائِد والمؤامرات، ولكن على مدار التاريخ كان هناك من أحبها وعشقها وضحى من أجلها؛ فمنذ مسيرة الآلام لعيسى عليه السلام، وخوض عمر بن الخطاب في المتاعب؛ لحمل أمانة مفاتيحها، وترصيع عبد الملك بن مروان لقُبتها بالذهب، وعهد صلاح الدين بعدم التبسم إلا على أعتابها، ورفض السلطان عبد الحميد التنازُل عنها، ومحبة المخلصين لها من أبناء الوطن العربي كافة، ومنهم من لم يكحلوا عيونهم برؤيتها حتّى، كان حب الله لها جليًّا واضحًا في ابتلائها، وفي عيون عشاقها التي لا تنام من أجلها.

القدس طريقها معروف، مُزينٌ بأرواح من أحبوها، سكنت في قلوبهم حتى أصبح التنازل عنها مستحيلاً، والاعتراف بكونها غير عربية أكثر استحالة، ولذلك قال فيهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : “لا يضيرهم من خالفهم أو خذَلهم”، فهم رغم الابتلاءات والمحن صابرين على الحق، حتى يأتيَ الله بفرجٍ من عنده، وعسى أن يكون قريبًا.