على مدارِ التّاريخ، كان الجامعُ (المصلّى) منبعَ الحياةِ الإسلاميّة، يقومُ بأدوارٍ مهمّة، ففيه تقامُ أهمّ شعائر المسلمين الصلاة، وبه تُعقَد حلقاتُ العلم والمذاكرة، فيه ينامُ العليل، ويأكلُ الفقير، ومنه يتخرّج الجنود، هذا في بدايات الدّعوة، بعدَها استقلّ كلّ عملٍ من هذهِ عنه؛ بيدَ أنّه كان الحاضنةَ الأولى، كان الرّوحَ والجسد، العلمَ والعمل، الحبّ والأمل.

الجامع والمسجد، مفردتان تدلّان على مكانِ العبادة في الذّهن الجمعيّ، بيد أنّ بينهما فرقًا واضحًا جليًا، فالجامعُ أعمّ من المسجد، إذ أنّه يجمعُ المسلمين في صلاتهم وفي حلقاتِ علمهم واجتماعهم، فهو مجتَمع المسلمين وفيه يُقام كلّ نشاطٍ دينيّ أو دنيويّ يرضي الله عزّ وجلّ.

أمّا المسجد فإنّه من السّجود، وهو دليلٌ على مكان العبادة لا غير، ولقد خطر ببالي وأنا أطوفُ مصلّيات الجامعة، أن أحدّثكم عنها، وعن بعضٍ من لطائفها ولطائفِ زائريها.

وكما أن لكلّ مدينةٍ مسجدٌ رئيس فإن مصلّى جامعةِ بيرزيت الرّئيس هو مصلّى الهندسة، إذ هو الأفسحُ والأبهى، يأتيه الهواءُ مداعبًا حرارةَ جسدِك وإرهاقَ روحِك، يسري بين جوانحك، فنوافذهُ كبيرة وفيه من (المراوح) عددٌ يفرحُك، في زاويته كلّ صباح ثلّةٌ من الشّباب يتلون بعضَ صفحاتٍ من كتابِ الله بصوتٍ بهيٍّ خاشع، يحملكُ أن تأتي مبكّرًا لتسمعهم.

وما يجعله من المصلّيات المعمورة أنّ صلاتيْ الظّهر والعصر تصلّيان دائمًا على ميعادِهما جماعةً، يأتي الدّكاترة يصلّون في الصّف الأوّل، تنمحي الفوارق في تلك اللّحظة بين الطّالبِ ودكتوره، يسلّمان على بعضهما، ويخرجان إلى المحاضرة.

أمّا مصلّى العلوم، فإطلالةٌ رائعة وهواءٌ عذبٌ يشرحُ الصّدور، وكأن الله قسمَ للهندسةِ والعلوم على قدْر جهدهم، أمّا مصلّى الآداب فلا متنفَسَ لك إلّا من تحتِ الباب، قد تظفر بذرتيّ (أوكسجين) تسللتا خفيةً، زد على ذلك قتامةَ لونِه وانسداد أفقِه؛ ولأنّي من الآداب أحاولُ أن أجمّل صورةَ مصلّانا فأقول: إنّ الخشوع يعظُم في الظّلمة والسّكينة تتنزّل علينا معشرَ الأدبيين، وعلى قدرِ أهل العزمِ والبلاء يكون الثّواب

هذه المزايا تدفعُك لتفضّل بين المصلّيات الثّلاثة الرّئيسة، هذا لمَن أراد الصّلاة، أمّا مَن أراد الرّاحة والنّوم -وهم كُثُرٌ أيضًا- فإليك التّالي:

الهندسةُ ملائمٌ في فصل الصّيف جدًا، إذ أنّه واقعٌ في منطقةِ الظّلّ، مزوّدٌ بالمراوحِ الكهربائيّة، فترةَ الصّباح الباكر يكون هادئًا جدًا، أمّا في الشّتاء فلا تقربنّه، فإنّه يصيبُك بالزّكام والبرد؛ بالرّغم من وجودِ وسادةٍ مهترئةٍ يمكنها أن تعدّل قوامَ رأسِك وتنعم بها بإغفاءةٍ رائقةٍ بين المحاضرات.

العلومُ حالُه كحالِ مصلّى الهندسةِ بيدَ أنّ فيه لِحافًا يُدفئُ بردَ جسمِك، ويمكنك دخولُه وقتَ الصّباح، وإلّا فإن الأزمة ستعكرُ صفْوَ مزاجِك.

أمّا الأداب فإنه المشتى لنا، دفءٌ بهيّ، وظلامٌ يتناسبُ والجوّ الخاطرُ ببالكِ، في الشّتاء، تكون المصلّيات عامرة، والأماكنُ مزدحمة، ولا ننسى أيّام الامتحانات، فإنّها عبارةٌ عن مكتبةٍ يسمحُ فيها بالاستلقاء أرضًا والانبطاحِ جانبًا والتّمدّد جوًا وأرضًا.

جميلةٌ هي المصلّيات في جامعتي، تعكسُ ركني العلمِ والدّين، الدّين الذّي يشجّع العلم ويمتّن أواصرَه به، جميلةٌ هي اللّحظات الّتي تمرّ صباحًا قبل بدء المحاضرات على مصلّاك، تشعلُ أنوارَه تنظّفُ سجادَه؛ ليبدأ يومٌ روحانيّ علميّ بين جدرانه الّتي تشهد صلاتَك وعلمَك، فإذا مررتَ بها فألقِ السّلامَ ركعتيْن أو تحميدتيْن لله البارئ الكريم وادعُه أن يخلّص الوطنَ فلسطين من كلّ كيدٍ ومحتلّ.