نعيش في حياة أظنّ أحيانًا أنّها جزء من عذاب الآخرة؛ لكن في قالبِ روتينٍ يوميّ يكسر يومًا بعد يوم جوهرَ كينونتنا، ألا وهو إنسانيّتنا، ما أعنيه أنّ الأصل الّذي ولدنا عليه قد غلّفته أكوامٌ من غبار النّفاق الاجتماعيّ الّتي علقت فوق رفوف أرواحنا الرّقيقة حتّى بِتْنا غرباء عن أنفسنا، نصطنع كلّ ما يرضي الآخرين حتّى لو كان قناعَ قسوةٍ وأنانيّة دفينة، لا تنكر عزيزي القارئ، فقناعُك واضح جدًا إن لم أره أنا فيكفيني أن تراه أنت؛ لأنّ الوصول إلى مرحلة الإدراك هو جزء من الوعي الّذي سيقود بلا شكّ إلى تغيير جميل يعيد إليك روحك المميّزة، لا ألومك ولا أستثني نفسي، فمجرّد إجبار نفسي على خوص ما لا تريده هو جزء من ذلك القناع الاجتماعيّ الّذي يجعل تنميط صورة البشر في إطارٍ اجتماعيّ معيّن أمرًا سهلًا للغاية، فهناك “شلل” تصنّف على أساس قناعها بينما يغفو تحت ذلك الغطاء قلب كالسّكر.

من نعم الحياة علينا توجيه صدماتٍ خفيفة ذات أثر كبير، صدماتٌ كفيلة بإيقاظ إنسانيّتنا مهما حاول الزّمان تنويمَها مغناطيسيًا، فتكون بمثابة تنفّس اصطناعيّ لروح غرقت خلف قناع القسوة لتصحو فجأة على إثر موقف عابر.

إليكم 5 مواقف أعتبرها أنا شخصيًّا أداة لتمزيق الأقنعة الاجتماعيّة:

1. الاستماع دون قصد إلى مكالمة هاتفيّة أو قصّة تدور بين شخصين في المواصلات العامّة
يا له من ثقل، حين تركب “الباص” ظانًّا أنّه ليس سوى وسيلة نقل مكانيّ، ثم تكتشف أنّه من أهمّ وسائل النّقل الرّوحيّ، فمجرّد قصّة عابرة أو مكالمة هاتفيّة قد تكون صفعة لك وتثير فيك رغبة البكاء. يروي الفرد قصته أو يكلم أحداً وأنت ترخي أذنك إلى حديثه حتى تجد نفسك وسيطاً حمل شيئاً من عبء ذلك المهموم إلى العالم الذي يقبع وراء شباك الحافلة، دعوني أشارككم بقصة صفعتني مؤخراً “جلست في المقعد الأول إلى جانب سيدة منكمشة على نفسها، نعم فقد كانت نحيلة جداً لدرجة أنها تبدو كمن حشر نفسه في زاوية خوفاً من شيء ما، أعطتني 3 شواقل حتى أمررها للسائق، ثم رن هاتفها، لا أدري كيف كانت بداية الحديث لكني أفقت على هذا المقطع الذي سأترك لكم فرصة تخيل النبرة الحزينة التي قيل فيها: ليش هيك بتعمل؟ والله أنا بحبك ومستعدة أفديك بروحي، مش مبارح ضربتني واجيت أنا اتأسفتلك؟ والله ما بهون علي زعلك حتى لو بتدبحني، أنا مين إلي غيرك؟ ثم دار حديث بينهما فقالت : خليني انزل من الفورد وأرجع عرام الله بغديك بمطعم على حسابي بس انت تعال، ومن الواضح أن المتكلم لم يوافق على عرض المطعم، فقد فكت شيئا من انكماشها خلال تقديمها العرض ثم عادت إلى سابق عهدها بعد جوابه، انتهت المكالمة وهي تبكي وأنا أبكي معها بلا صوت حتى لا تنتبه إلى قلة ذوقي و تركيزي في كلامها” قد يكون زوجها أو ابنها، المهم أنه شخص قد كسر قلباً كان ينتقل حينها من رام الله إلى بيتونيا، وأيقظ قلباً جالساً بجانب القلب المكسور من غفوةٍ طويلة.

2- رؤية شخص اعتدت على شخصيته القوية يبكي في مكان منعزل في الجامعة 
كم هم كثر، من يتقنون تمثيل دور قوة الشخصية وعدم الاكتراث لشيء مهما كان. من طريقة المشي إلى النظرات إلى الاستهزاء بالآخرين ثم لحظة في العمر تأتي لتراه باكياً كطفلٍ صغير في مكان بعيد عن أعين الناس، يا له من موقف! أستطيع حتى الآن تذكر وجه أحدهم حينما مررت به يوماً في طريقي إلى مصلي العلوم “شب طول بعرض” لم أعتد إلا رؤيته سعيداً مختالاً، يبكي بشكل هستيري، لا أخفيكم أن ما رأيت قد نال مني ما نال، لكني شعرت بالعجز. العجز سوط يضرب كل مشاعرنا ويكبلها باللاشيء، فيا لها من يقظة.

3- مراقبة شخص يأكل وحيداً في مطعم يضج بالناس
هل هناك أجمل من الخروج برفقة أصدقائك المجانين؟ تضحكون وتتحدثون في كل شيء ثم تأكلون الأخضر واليابس ولا تتركون فرداً في الكون إلا وأتيتم بذكره ثم تعودون للضحك ثم للعب ثم لاستفزاز بعضكم واللهو والمرح ثم….. تقع عينك على شخص يأكل وحيدا في ذلك المطعم الذي يضج بالناس والأصوات! تلك الوحدة رغم إحاطة الناس بك كجرزة صوف حاكتها لك جدتك، تنخزك خيوطها أحياناً لكنك تفضل ارتدائها رغم كل شيء. لا أدري ربما كان الشخص الوحيد سعيداً بقطعة الهابمرغر التي يأكلها لكني لا أستطيع إلا أن أشعر بشيء من الحزن بعد ما رأيت، فالأكل بالنسبة لي ليس لذيذاً إن كنت وحيداً، ثمة من يجب أن يحاول سرقة قضمة من هنا أو هناك حتى تستطيع الأكل وأنت سعيد.

4- ابتسامة من شخص قد أسأت إليه يوما
لسنا ملائكة، كلنا قد سببنا شيئا من الأذى لشخص حتى وإن لم يكن ما فعلناه بقصد الإيذاء. لكن فلنتحدث هنا عن الإيذاء المقصود، وبالتحديد عن أشد أنواع الإيذاء ألا هو وهو الإيذاء النفسي. لعل تلك الأقنعة الاجتماعية القاسية تشجع الناس على طعن بعضهم ثم المضي قدما والضحك على ما فعلوا لا بل والتفاخر به أمام مجموعة الأقنعة التي يعايشونها يوميا، ثم تقابل الرصاصة بوردة! ابتسامة من شخص يوقن جيدا أنك لئيم ومثير للمشاكل ستطعنك أيها القاسي، ربما ستنكر ذلك أو تحاول استهجانه أمام أصدقائك لكن ما يهمني هي الروح، لا بد وأن شرخاً قد رسم لنفسه مساراً في قلبك، فلا تتمادى، هي فرصةٌ للحياةِ من جديد فاستغلها واعتذر.

5- الأطفال، وكيف لهم ألا يرققوا أرواحنا وهم بَلسَمُها؟
لا أدري كيف أصف هذه المخلوقات، لكني سأكتفي بتسبيح من خلقها، فسبحانَ الله على ما خلق وأبدع. لديهم قدرة عجيبة على تفتيت القلب بل تذويبه، مهما بغت في تكبرك عتيا، لن تستطيع الصمودَ في المواقف التي تتعلق بالأطفال. قل لي.. ما شعورك وأنت تسير مختالاً مرحاً ثم ترى أماً قد سيطر عليها غضبها “فسلخت” طفلها البريء “كفّاً سطله سطلاً”؟ هل أجيبكم؟ تشاجرت مع أم يوماً وقالت لي ألا أنصح الناس بكيفية تربيةِ أطفالهم، كانت سَتضربني كما ضربته لكنني هربتُ خوفاً من”جحرتها”، ما زلت أدعو له حتى اليوم أن يعينه الله على التسلخات التي ستصيبه حتى يكبر. طيب طفل تحمله أمه على يدها فَيختلسُ النظر إليك من فوق كتفها ويشاركك ضحكةً من الجنة؟ قد أُجَنُ من الفرحةِ أنا شخصياً.

لا شيء في الحياة أجمل من البساطة، لا شيء أجمل من الرقة المقرونة بقوة الشخصية النابعة حقا عن فكرٍ سليمٍ وقلبٍ سليم، وصدقوني لا يمكن لأحد أن يكون هكذا إلا وقد توصل إلى قناعة بأن الدنيا فانية وأن فعل الخير ولو بالقليل هو أفضل شيء نقوم به، فاترك عنك الغرور وانزع قناعك، لديك وجه جميل بدونه يتوق الكثيرون لرؤيته.

اللهم َرقق قلوبنا، واجعلنا غيوماً من قطنٍ ناعم تمشي على الأرضِ فتُمطر، ولا تجرح.

هل هناك مواقف أخرى قد تركت أثراً في قلبك، لم لا تشاركنا بها؟