كُثُرٌ في هذا العالم مَن يدخلونَه ثمّ يخرجون منه كأن لم يدخلوه، بيد أنّ محمّد يرفض أن يخرجَ منه إلّا منتصرَ العزيمة، ساميَ الفكر، جليلَ الشّأن، ويا ليتَنا نتعلّم من محمّدنا

تبصرُنا من بعيد، متعانقةً أيدينا، يقودني محمّد إلى دربٍ ما زلتُ أجهلُه، بينما يُتقنه محمّد، أقتفي أثرَه لعلّني أبصرُ نفسي المتهالكةَ وسْط الزّحام، نعمْ، أدلّه على طريقنا نحن المبصرين، وأحاول جاهدًا ولوجَ طريقه الصّعيب، طريق الرّوح، بيد أنّي أفشلُ كلّ حين، لم أبصرْه ذاتَ يومٍ حزينَ المحيّا، ولا متجهّم اللّقاء، إنّما فتىً بهندامٍ بهيّ متزيّنٌ متعطّرٌ دائمًا، لا ينسى أن يضعَ خاتمَه الجميل ويُلبسَه بنصرَه الغضّ، لا تفارقُه الابتسامة، فهو يلقي بصَدَقاته علينا كلّ يوم.

محمّد العَملَة، طالبُ اللّغة العربيّة في بيرزيت، وهو ممّن تشرّفت بهم لوحة الشّرف طيلةَ فصوله الأربعة الماضية، فاقدٌ للبصر، يرى ببصيرته، ولقد قالوا قديمًا: ” ناظرُ القلبِ لا يخلو من نظر ” ومَن رأى محمّدًا أو عاشرَه، عرفَ ما أقول، ولقد لازمتُه من سنتيْن، نتسامرُ ونتدارس، يُسرّ لي مستغربًا من حال الطّلبة يملكون عيونًا يقرأون بها ولا يفعلون !! أمّا محمّد، فتتكفّل الجامعةُ بطباعة الكتبِ المقرّرة بلغة المكفوفين (برايل) فكثيرًا ما توجّهنا إلى مختبرِ الطّباعةِ حينًا أو إلى المكتبة حينًا آخر، نبحثُ عن هذه الكتبِ وغيرها، فينفعلُ حينَ لا يجدُها، فهي سبيلُه الوحيدُ للمعرفة الجامعيّة، رغم كلّ هذا فقد كان مَلِكَ دائرتنا، وممثّلها الأوّل والأجدر، أمّا عن شغفه بالعربيّة فإنّه يحبّ النّحْوَ العربيّ إذ لا يرى مستقبلَه إلّا فيه، كانت مادّته المفضّلة، ولطالما أثنى عليه معلّمُنا الفاضل د. عمر مسلّم مبشّرًا إيّاه بمستقبلٍ واعد.

حينَ نخرجُ بين المحاضرات، ننشُدُ هواءً نقيًّا بعيدًا عن ضوضاء المدينة الجامعيّة، يسترسلُ محمّدٌ في الاستماع وبثّ بعضًا من تعليقاته على ما نتناشدُ من أبياتٍ شعريّة، ولكم أحبّ زهيرَ بن أبي سلمَى، وأحبّ معلّقته، أحبّ المتنبّي، أحبّ العربيّة بكاملها، وفي الفترة الأخيرة تناشدنا شعرًا حديثًا لشاعرٍ كويتيّ يُدعى بدرَ الدّريع، أثارتْ حكمتُه إعجابَ محمّد، ولطالما سمعتُ تعجّبَه: يــا الله !!

في الجامعة، أسّسَ مجموعةٌ من الطّلبة تجمّعًا طلّابيًا  تطوّعيًا يقوم على مساعدة طلبة الاحتياجات الخاصّة، ينظّمون أمورهم، يساعدونهم، يكتبون لهم امتحاناتهم، يرفّهون عنهم، وكأنّهم أسرةٌ واحدةٌ جمعتْهم الإنسانيّة ولا غيرَها، يقول المتطوّع في مجموعة أصدقاء ذوي الإعاقة سلام جيتاويّ عن حرص والد محمّد على تعليمه: ” يعجبُني فيه تحمّل المشقّة في سبيل تعليم ابنه وإيمانه به، ومساعدته في تحقيق طموح ولده

أحيانًا، أرى محمّدًا ومعه صديقُه الكفيف أيضًا (صالح) يمسكان بأيديهما ويمشيان، لا يخطئان الطّريق؛ بل ويحفظانها، أتعجّبُ حين أنظرُ إليهما والبسمةُ ترتسمُ عليّ، وأقول: سبحان مَن أخذَ البصرَ وأعطى البصيرة، سبحانه !!

أمّا محمّد، فمحبوبٌ منّا – نحن معشرَ الطّلبة – كيفَ لا وهو الحسنُ الخلقِ، بهيّ الكلِمِ، طلْقِ الوجْهِ، المهتمُ بدرْسه وعلمه، وها هو يوشك على تخرّجه، وقد اختارَ مشروع تخرّجه البحثيّ هذا الفصل، في العلم الّذي يفضل، علمِ النّحو العربيّ، مع معلّمه الّذي يحبّه، متحمّسٌ للتجربة، يريدُ أن يقدّم وأن يحملَ أمانةَ العلمِ بحقّها.

فيا محمّد، أكتبُ هذا لك، لأنّك تستحقّ، وسأتكلّم نيابةً عن (بيرحكايا) فأنتَ فخرٌ لنا وفخرٌ لبيرزيت، ونحنُ نفخرُ؛ بل نتشرّف أن نكتبَ عنك، فمَن هم مثلُك قِلّة، العزيمةُ والطّموح خيرٌ لهما أن يسكنا قلبَك وروحَك، فلن يجدا مَن يتمثّلهما مثلَ ما فعلت.

هذا وإن كتبتُ، فما كانَ لحرفٍ أن يبلّغَ ما في القلب، فهو في قصورٍ دائم، وأنت في علوّ دائم.