أنت تملك من تكوّمك في أحضانها، تخبّئك عن الدنيا ومن فيها، تحتضن روحك بصدق، وتقبّل قلبك برحمة، تجمع لكَ الهواء وتقدّمه لك على طبقِ لئلّا تختنق، وفي كلّ ليلة تخاطب الله باسمك قائلةً : “احمِ قلبهُ،احمِ روحهُ يا الله” .
كلّ ما خلق الله من أمل في قلبها قد علّقته بك، وكل القدرة على التحمّل الّتي آتاها الله إيّاها، قد أظهرتْها لأجلك؛ لتُظهِر لوحةَ حياتك في أبهى حلّة ممكنة، تجوع لأجل أن تشبع، تسهر لأجل أن تنام، وتحترق؛ لتنير عتمةَ قلبك، تخاف عليكَ من نفسك، تؤثرك على نفسها، تحيطك بعينيها وتتبعُك بقلبها.
أأنتَ مُدركٌ لكلّ هذا ؟؟
أمدركٌ أنّكَ تعيش مع قلبٍ من ذهب؟ قلبٍ يحنو عليك، حتّى وإن أغلظْتَ عليه !! يفرحُ لكَ إن فرحت، ويحزنُ عليكَ إن حزنت !! وله كلّ الدّور في الوصول إلى ما تصبو إليه، حملتْكَ كُرهًا ووضعتكَ كرهًا، وما إن استنشقتَ نسيمَ هوائك حتّى نسيَت ما مرّت به من عذاب ومعاناة، وحين تطلّعت إليكَ علّقت فيك آمالها، كانت تغذّيك بصحتها، تقويك بضعفها، و تنمّيك بهزالها.
وما إن أنهت فصالكَ في عامين، و كبُرت، كبُر جهلك، فأخذتْكَ منها السنون، وسيطر عليها الحنين، وتناسيتَها، ولربما نسيتَها، وبقي الكلام عالقًا في حنجرتها، لا تقوله ولا تحبسه، بل تبكيه سرًّا وأنتَ لا تعلم.
كلّ ما سأقوله الآن، هو كلامٌ عالقٌ بين حنجرة أمك وقلبها، لا تقوله لك، ولا تنساه. ربما وصل الكلام باكرًا فاحفظه، وربّما وصل في وقته فاغتنمه، وربّما وصل متأخرًا فلا تحزن، في كلّ الأحوال ، اطلِع عليه:
لستُ بحاجة لتوجيهاتكم، أنا لستُ طفلة .
كنتُ أوجَهكَ صغيراً ، وما انتَ عليه الآن هو بفضل توجيهاتي البدائيّة، فلا تقل لي افعلي ذلك ولا تفعلي، لا تأمرني بصيغة الآمرين الناهين. ان كنتُ اخطئ في بعض المواقف، اخبرني أن ما فعلتُه صحيح، وان هناك أصح. لكن إياكَ أن توبّخني .
قمتُ على أمرِك صغيرًا، فلا تخذلني كبيرًا
كبرتُ، شاب شعري، ووهن عظمي، احترقتُ؛ لأضيء لك طريقًا طويلًا، وبقدْر ما هو طويلٌ هوّنتُهُ عليك وجمّلتهُ لك، كنت تنمو مستهلكًا قوّتي، وترضع من موادّ جسمي قوّةً و طولاً ، إلى أن وهنتُ وصرتُ بحاجة إلى مَن يخدمني، فلا تخذلني.
أأصبحت الآن لا أجيد التربية؟
أنا يا حبيبي، حين أوبّخ أبناءك، فإنّما أقصد أن أراهم أفضل ممّا رأيتُك، لا أقصد إزعاجَك ولا إزعاج زوجك، أقصد أن أصنع منهم حديدًا وفولاذًا كما صنعتُ منك، وأن تكونَ راضيًا عنهم أكثر مما أنتَ راضٍ عن نفسك، أنا عشت ضعف تجربتك، وأعلمُ أكثر ممّا تعلم في هذه الحياة، فلا تغضب مني، أرجوك، ألمْ أوبّخك وأربِّكَ صغيرًا، حتّى أصبح القوم يفخرون بأدبك وصلابتك؟
لا تهجرني.
حين تطغى على وقتكَ مشاغلُ الحياة، ويتقلّص عدد ساعات يومك، وتنسى أن تنظر الى المرآة؛ لكثرة انشغالك، لا تنسى في زحام يومك أن تفتقدني، أتذكّر حينما كنتَ تركض إلى حضني فرِحًا حين أعود من زيارةٍ قصيرة !! أنا أعيش هذه الفرحة حين تزورُني، أو تفتقدُني، أو تقبّلني فجأة وتحتضنُني.
أنا ابنتك .
كم مرة تفقدتَ غرفتي ؟ ستائري؟ محفظتي؟ رصيد جوّالي؟
أنا لا أطلب الأشياء يا بنيّ، تفقّدها بنفسك، اعتبرني أحدَ أبنائك.
لو ارتفعت حرارة ابنك، ألن تذهب به إلى كلّ طبيب؟ لماذا حين أمرض أنا، تقول لي: تناولي الدّواء !!
سلني عن رقم حذائك، عن أكلتك المفضلة، عن عطرك المفضل، عن حوارٍ تحبّ أن تخوضه، عن حيوان أليف تفضّله، عن وقت صحوك ونومك، سأجيب بلا تردّد.
حين أسألك عن أحدها، يؤسفني ألّا تعلم.
أنا لا أريد أن أذهب معك
لماذا حين أسألك: “إلى أين تذهب؟” تغضب!! أنا لا أريد أن أذهب معك، ولا أقصد التّدخّل في خصوصياتك، بل أريد أن أشعر أنّك ما زلت تخصّني، وأريد أن يلفّكَ قلبي بالدّعاءِ لا أكثر.
احفظ هذا الكلام بقلبك ، اذهب الى أمّك الآن، احتضنها وقل لها: “كلّ يومٍ وأنتِ عيد، كلّ عامٍ وأنتِ الخير كلّه”.
وإن وصلك هذا المقال متأخرًا، صلِّ بكلّ ما أوتيتَ من قلب، وادعُ الله أن يرزقك زحام الجنّة مع أمّك، ومَن تحبّ.