وحي المطاعم السورية القديمة
كم منا حلم يوماً بهذه الاستقلالية! وفكر بمشهد يضم زوايا حجرية قديمة يختبئ بين حناياها مطعم لطالما شاهدناه في حلقاتِ مسلسلٍ سوريٍّ أصيل..؟ يستيقظ الممثّل ضارباً بيده منبهَ ساعةٍ أخذت تتأرجح يميناً ويساراً سارقةً منه نوماً لم يدم 4 ساعات ليست بكافية لراحة جسد أُنهِك ليلاً في عمله، ليستقل مركبته الخاصة صباحاً ماراً بشوارع القدس. وفي محله الذي يعيد فيه تدوير الجمال يكتشف بطلنا حاجته للتغيير وتحقيق ذلك الحلم الوردي ببناء مكانٍ بعيدٍ كلَّ البعد عن صخب المدينة وطعامها المزيف ببعض فنون التزيين التي تجبرك على التكيف مع ما يسمونه “البرستيج”، لتأكل بشوكةٍ وسكينٍ لا تنفكان عن مراوغة يدك في الوصول لحبة الأرز تلك؛ فكان من حظ بيرزيت وطلابها أن يكون هذا البطل ممن يجلسون على مقاعد دراستها الآن، وهو الطالب المقدسي محمد سيف الذي حاك لنا تفاصيل قصته برفقة مطعمه مطعم “غرناظة”.

زاوية خارجية لمطعم غرناطة
مخاض “غرناطة”
بعد تجربةِ العمل في عمرٍ صغير، وحياةٍ مليئةٍ بالأحداث، رست الحياة بمحمد على مرفأ جامعة بيزيت، وها هو على عتبات ارتداء ثوب التخرج ليحمل شهادة علم الاجتماع وفرعي إدارة الإعمال. لكن محمد أبى إلا أن يترك أثراً في بلدة بيرزيت وجامعتها يربطه بها بعد انتهاء علاقته الدراسية بالجامعة، ويعيل من خلاله نفسه وأسرته؛ فظروف الحياة ورفضه كشاب مقدسي العملَ في الداخل المحتل قد دفعاه لإتمام مشروع “غرناطة”.
ميلاد “غرناطة”
بعد الشهر الفضيل لعام 2016 افتتح محمد مطعمه الذي يقع في أحد أحياء البلدة القديمة ببيرزيت، وكان ذلك عقب عناء استمر شهوراً عديدةً كانت عوائقُ مكانيةٌ وماديةٌ إحدى أسبابه، لكن مبلغاً مالياً كان قد ادخره من معاشات كانت تصرف له باعتباره أسيراً سابقاً أمضى عاما ونصف العام خلف القضبان، ومبلغا ماليا آخر كان عونا له من أصدقائه، قد أخرجاه من ضائقته ليُتِمَّ مشروعه.

محمد.. بيديه بنى مكانه الخاص

المطعم في مرحلة الإنشاء
بيديه.. جعل من”غرناطة” مكاناً ساحراً
من يدخل غرناظة سيستشعر جهدَ سواعده، فمن الواضح سعيه للخروج بفكرته عن المألوف؛ فتصميم المكان بأكمله كان صنع يديه التي أعادت تدويرَ عجالٍ وألواحَ خشبيةٍ وزجاجٍ ليزين بها زوايا مطعمه. أما عن رائحةِ الأصالةِ التي تشتمّها عند فتحك باب المطعم، فيا لها من رائحةٍ تنسجم مع أحياء البلدة القديمة! تنتظر قليلاً ليخرج محمد إليك حاملاً بين يديه أطباقاً تتزواج رائحتها مع رائحة العبق في المكان، حيث يشتهر المطعم بوجباتٍ غربيةٍ وعربيةٍ كالدوالي، والشيشبرك، والمحاشي، وصواني المقلوبة، والأوزي والدجاج التي يطهوها في المحل بعد تعلمه فنونَ الطبخ من أمه، ومهارات طبخ أخرى اكتبسها خلال فترة اعتقاله، فأيّ رائحةٍ قد تجتاح أنف القارئ بعد أن يُخيّل له أن الطعام فيه نكهة من يدي الحاجة أم محمد، وهي ليست أي حاجة؛ بل حاجة مقدسية! فهل بعد قداسةِ ما قد تصنعه بيديها قداسة؟!

أحد الأطباق التي يقدمها المطعم
ماذا عن الأسعار في”غرناطة”؟
يراعي محمد أن تناسب أسعار الوجبات جيوب الطلاب، وخاصة طالب السكن الذي يشتهي بعد عناء دوام يوم طويل أن يرجع إلى سكنه ويطرق بابه زميل له في الجامعة وفي يديه طبق فيه من النظافة والطيابة ما يذكرهم بطعام أمهاتهم في المنازل.
طلاب بيرزيت كما عهدناهم
حين زرت المطعم كان في مخيلتي أن هذه البساطة في حديث محمد، ودفء الألوان، وشاعرية المكان، وبحة الصوت تنم عن مجهود شاب في مقتبل العمر يكافح في هذه الحياة ليكلل قصته بالنجاح، ويرويها لكل من فقد أمله بجني ثمار تعبه. حدثني محمد أنه في يوم شتاء ماطر كان قد أنهى دوامه في الجامعة، وذهب إلى محله في البلدة القديمة ليباشر عمله اليومي في تحضير الطعام قبل مجيء الزبائن، ليتفاجأ بالمياه تغمر المطعم، والسقف يكاد يهترئ بسبب عنف الشتاء ذاك؛ فأخد بمحاولة إخراج الماء وإصلاح ما يمكن إصلاحه قبل مجيء أحد؛ لكنه فوجئ بوصول بعض الطلاب لتناول غدائهم، فتركوا ما كانوا قد جاءوا لأجله، وأخذوا شباناً وفتياتٍ بمساعدة محمد في “التقشيط” وترتيب المكان. كيف لا يُجزى محمد بأخيار الناس، وهو الذي أغلق محله شهرا بأكمله ليساند زملائه الطلبة خلال إضرابهم ضد قرار رفع الأقساط؟

طلبة بيرزيت خلال تواجدهم في غرناطة
“كبّ القهوة خير”
وكما قال المثل “كب القهوة خير”؛ لكن المطر في حالتنا هذه قد روى حاجتنا لمثل هذه القصص المحفزة، فلم لا نقتدي بمحمد؟
أجواء ليس عليك تفويتها
وجبة طعام وسهرة على أنغام العود، وعروض موسيقية ينسق لها في محله، وصوت أغنية عبد الرحمن محمد “لما تلاقينا” تطرب الجالس، ومكان مثالي لإنهاء رواية بين يديك، ومشاعر دافئة وأمل في مستقبل يقدس سوادا تحت عينيك، كل ذلك يمنحه لك محمد حين يستقبلك في مطعمه المتواضع، مطعم شيده بتجاعيد يديه، مطعم غرناطة.
يمكنكم زيارة المطعم عن طريق التواصل معهم على صفحتهم :
https://www.facebook.com/granadar/
هل زرت مطعم غرناطة يوما؟ أخبرنا كيف كانت تجربتك هناك؟