أخرجُ مُتعبًا من المحاضرة على عجَل، أحاولُ تناولَ وجبةٍ خفيفةٍ؛ لأستطيعَ الصّمودَ بقيّة المحاضرات، وطبيعتي أنّي أحبّ الهدوء التّامّ مقترنـًا ببعضِ الجمال الطّبيعيّ، فألجأ له وقتَ ذروةِ الأزمةِ الجامعيّة في شارع الآداب هاربًا منها، أجلسُ على صخرةٍ كبيرةٍ أرقبُ الجبال المقابلة والقرى المتربّعةَ عليها، بينما أمدّ النّظرَ بعيدًا فينفطرُ القلبُ، إذ بيوتٌ مصطفّةٌ بطريقةٍ عمرانيّة جذّابة تجثمُ على الجبل، طُرد الأهلُ من أرضها، وبقيتْ للعدو يتيه فيها ويفخر.

 لستُ وحدي في هذا المنظر، فالقطّة الشّقراء تتمدّد جانبي تشاركُني الرّأي، وتشاركُني التّعب، تنظرُني بعيونٍ بهيّة، ومواءٍ حزينٍ يعبّر عن حالةِ معدتها الفارغة، وعلى قدْر جوعها يكون مواؤها أكثرَ إحزانـًا، لا تملكُ حين تسمعُها إلّا أن تقاسمَها (وجبتَك) الّتي عادةً ما تكون (دجاجًا مع قليلٍ من المايونيز) تدعوها لتأكل حصتها، وتعتذرُ لها إذ أنّك لم تحسبْ لها حسابـًا بالمشروب الّذي تشرب، ونحمدُ الله أنا وإيّاها بأنّا لا نشربُ الكحوليات، ولا ندخّن السّجائر.

وعلى عادةِ القطط، تكرّر المواء فورَ انتهاء لقمتها الخفيفة، تدعوكَ لإكرامها كونَك بادرتَ بأن تستضيفها في مكانك وبين جماهيرك، تقدّم لها لقيماتها وأنت تبتسم، وتقول لقطط بيرزيت: قد أصابتِ القطّة واللهِ وجاعتْ.

في بيرزيت، تكثرُ القطط، بين الأشجار وحولَ المقاعد، تتجوّل مع أهلها، تسهرُ ليلًا بالتّأكيد، وهذا ما لا نفعله نحن، فهنيئًا لها؛ إذ تتجوّلُ في الشّوارع خاليةً إلّا من خيالِها، تزهو بنفسها، ولعلّها تمشي مِشيتَها وتقفُ على درج الآداب، تقول هذا موقفٌ لن أقفَه غدًا، وإنّي لأقولُ في نفسي : حياةُ هذه القطّة خيرٌ من حياتي الّتي أقومُ فيها صباحًا متعبًا أنهي عملي وأحملُ همّ الوصول للجامعة، بينما تصحو القطة صباحًا تقفُ قبالةَ الشّاطئ الفلسطينيّ تتنسّم هواءه وتقبّل ربيع الأرض وتلثمُ نداه العبِق، فأيّنا حياتُه أجمل ؟ أنا المتعب، أم القطّة الهنيّة ؟؟

أيُّنا يحملُ همّ الواجبات وهمّ الأبحاث؟ أيّنا يُلقي بنفسه نهايةَ اليوم على سريره أنهكه التّعب وطول المدارسة؟ أنا والله أتعسُ منها، ومع كلّ هذا فأنا أحبّ قطّتي، وأتحدّث مليًّا معها، بينما كلّ صديقٍ مع صديقه، وأنا أبادلُها المواء؛ علّها تتقرّب منّي، وما تنفكّ تأخذ لقمتَها حتّى تهجرَني، ثمّ تعيدُ الكرّة بعد الكرّة، وتخدعني المرّة تلوَ المرّة.

أجملُ ما أراه من قطّتي، حينَ تستحمّ بتراب الأرض، وكأنّها تقولُ له: أنا منك، ولن أبرحَ أغادرُك، فإن غادرتُكَ فسأعيشُ داخلَك أبدَ الدّهر، هذه القطّة تنتمي لوطنها، وكأنّها تقولُ لنا: هذا وطننا، فإن أضعتموه فإنّي أحقّ به منكم.

لربما هذه الجملةُ الّتي استخلصتُها من تصرّف القطّة الجميلة، يعدِلُ عندي مساقاتٍ تعلّمتُها، وقصائدَ حفظتُها، هذه القطّة بحقّ نالتْ تميّزَ الدّكتوراه الشّرفيّة، فلا تعجبوا، قد تكون أحقّ بهذا الوسام من كثيرٍ من متقلّديه، فهي مواطنةٌ صالحة، تعيشُ حياتَها في بيرزيت، وفي أروقة بيرزيت، لا تغادرها إلّا إلى القبر، يُطعمها أهلُها، فإن غابَ طلّابُها لا ينساها حرسُ الجامعة، فإنّي رأيتُ منهم مَن يتقاسمُ وجبتَه معها منتصفَ اللّيل، فأنعمْ بهم راعٍ وأنعم بها رعيّة. أيّتها القطّة، تكاثري، وأعلمُ أنّك تفعلين، أنجبي لنا المزيد، لا لنستمتعَ بالنّظرِ إليك؛ بل لعلّك في يومٍ من الأيّام تقودين وطننا لما فيه خير؛ فما (هدهدُ) داود عنك ببعيد.

 القرّاء الكرام، أسلّم عليكم، ومن قبلُ سلّمتُ على قطّتي كثيرًا، وحادثتُها، فحدّثوني عمّا مرّ بكم مع القطط الجميلة في جامعتنا أو الحيوانات الأليفة أيضًا، واكتبوا كلّ جميل!