درستُ مع الدكتور محمود العطشان مساقاً واحداً، كنت أراه على مدار الفصلِ مرّتين أسبوعياً، ولم  أتوقف عن التفكير به مرة واحدة، وبعد كل محاضرة، كنتُ أخرج بعبرة كبيرةٍ و تساؤلٍ أكبر، ما عذرُكِ يا أنهار؟ ما عذركَ أنتَ يا من تقرأ؟ ما أعذارُنا جميعاً طالما أن لا شيء في الدنيا مستحيل سوى الخلود؟

يُبصر بقلبه
حين يقرأ شخصٌ كفيفٌ كمحمود العطشان على مسامعكَ قصيدةً، فتشعر أنه على وشك البكاء لشدّة تأثره بمعانيها، وحين ترى تعابير وجهه وهو يتلفّظ كلماتها فتنبهر بها أكثر مما تنبهر بالكلمات نفسها، وتتساءل… كيف لشخص كفيف أن يصور لنا القصيدة بأبهى حلة لها، ثم يتنهد قائلا “ياا الله”  تاركا طلابه يشعرون بلذة ما بعدها لذة؟

 وحين يصف لك معنى الوفاء ويوصله لك بطريقة أبرع من كلَ المبصرين، تجتاحك ابتسامة تود لو أنها تتجاوز شفتيكَ ليبتسم جسدك كله، وتجتاحك دمعة تود لو أنها تتجاوز عينيك إلى جسدك كله، ليدفعك كل هذا للتفكر في قول الله: “وما تعمى الأبصارُ ولكن تعمى القلوب التي في الصّدور”.

الدكتور العطشان في المنتصف

 

“لا أتصوّر أن هناك شيء اسمه مستحيل في هذا الوجود”
 هذا ما ابتدأ به الدكتور محمود حديثه حين طلبت منه أن يروي لي مسيرة تعليمه.
في مراحل التعليم الأساسية، دخل مدرسةً ابتدائية لتعليم المكفوفين في رام الله، كان فراق الأهل بالنسبة له أمر صعب مبدأياً لأنها كانت مدرسة داخليّة، لكنه احتمل هذا الأمر وتأقلَم معه، ثمّ اكمل تعليمه الإعدادي والثانوي، وبعد عام 1967 اضطُرَّ إلى السفر إلى الأردن لاجتياز الثانويّة العامة (التوجيهي)، كان السفر صعباً جدا بالنسبة له، أمضى وقته خلال هذه المرحلة عند أقاربه، واجتاز الثانوية العامة بنجاح.

“المرحلة الجامعيّة”

دخل الجامعة الأردنية بحماسٍ وخوف،؛ وذلك لأنه بدأ بتحقيق الحلم رويداً رويدأ، ولأنه من جهةٍ أخرى لم يكن يعرف أصدقاء كثيرين ، لكنه تجاوز الخوف وانشغل بالحلم، فقد بنى علاقات وطيدة مع عدد كبير من زملائه وزميلاته في الجامعة منذ أسابيعه الأولى، وبعد اجتيازه مرحلة البكالوريوس، أنهى الماجستير والدكتوراه في جامعة عين شمس.

“لن تبلغ المجدَ حتى تلعقَ الصبرا”

الطريق إلى الحلم لم يكن يوماً سلِساً،  فلا بد من تحدياتٍ وصعوباتٍ، والذي يستحق الوصول هو الذي يصمد فقط.

من المشكلات التي واجهت الدكتور محمود في ذلك الوقت، مشكلة المواصلات؛ فلم يكن من السهل التنقل ببساطة في ذلك الحين، لأن المواصلات لم تكن متوفرة بالصورة التي نراها اليوم.

الأمر الثاني، لم تكن الكومبيوترات قد ولدت بعد، وكانت الكتب المطبوعة بخط بريل قليلة جداً، ولذلك، كان يبحث عن أشخاص يساعدونه في عملية البحث، وكان يقضي من 7- 8 ساعات في المكتبة من أجل التأكد من مراجع البحث الذي ينجزه. كما أنه كان يواجه عقبة ماديّة بسبب دفعه مبالغ كبيرة لمن يقرأون له الأبحاث وثمناً للكتب.

المشكلة الأخرى وليست الأخيرة، ضيق اأفق الناس وظنهم بأن صعوبات الحياة تمنع نجاحاتها، وعدم إدراكهم بأن الإرادة والجدية وعدم العبثيّة وتحديد الهدف في الحياة وعدم الخوف من المشاكل ترقى بالشخص فوق أُفقهم الضيّق والمحدود.

الدكتور العطشان خلال مشاكرته في إحدى الفعاليات الأدبية

“الانتماء للوطن أقوى من كل العروض” 

 عٌرِضت عليه عدة وظائف في المملكة العربية السعودية، لكنه رفضها كلها. تمّ توقيع عقد توظيفه في جامعة بيرزيت قبل أن يناقش الدكتوراه بحوالي شهرين، وبعد أن ناقش الدكتوراه بأربعة أيام، تحديداً في 24/10/1981،  بدأ عمله في دائرة اللغة العربية.

وقال في نهاية حديثه ” أنا أعتقد أن مكان الإنسان الطبيعي في وطنه وإن غادره غير مضطراً فستكون هناك علامة استفهام على جديته وانتمائه لوطنه”.

حدثنا عن تجربتك مع الدكتور محمود العطشان إن كانت لديك واحدة، أو أخبرنا قصة اجتياز للمستحيل كقصته.